عن الهوية، الانتماء والنشر الذاتي: مقابلة مع عبدو شنان حول مشروعه "جاف"
6 / 10 / 2023

هذة المقابلة هي الأولى من سلسلة مقابلات مع مجتمع آفاق الممتد من حاصلين وحاصلات على منح، مدربين ومدربات، وشركاء متنوعين. أجرت رنا قبيسي ونوران حاتم من آفاق المقابلة مع الفنان والمصوّر الجزائري عبدو شنان في ربيع 2023 عبر تقنية Zoom وركّز اللقاء على مشروع شنان وكتابه المنشور حديثاً تحت عنوان "جاف" والذي يسائل فيه مفاهيم الهوية والإنتماء.


حول المشروع

"من أنا؟" سؤال طرحه "عبدو شنان" على نفسه بعد عودته إلى الجزائر عام 2009، عندما كان عليه أن يواجه، لأول مرة، حقيقة أنه ليس فقط جزائرياً. يتمحور هذا المشروع حول هذا السؤال، بالإضافة إلى العديد من الأسئلة الأخرى الناتجة عن تأملات شنان حول الانتماء، والجنسية، والهوية.

المقابلة

نوران حاتم: إذا تخيلنا خطاً يمتد من مجموعتك الفوتوغرافية يوميات: المنفى، المشروع الأول الذي صادفته أنا، إلى مشروع "جاف"، نستشعر قدراً من الحميمية بهما . جدتك واحدة من أبطال مجموعة "يوميات: المنفى". نتساءل كيف تبني هذه العلاقة الحميمة مع أبطالك -سواء كانوا من أفراد الأسرة أو من الغرباء- لتتمكن من التقاط مثل هذه اللحظات ومشاركة هذه المشاعر؟

    عبدو شنان: في البداية، "يوميات: المنفى" مجموعة شخصية للغاية. إنها، حرفياً، يوميات، وربما أكثر من ذلك، خاصة في البداية. لم يكن هناك فعلياً أي تحضيرات للبطلة الرئيسية أو أي من الشخصيات الأخرى قبل تصويرها. كان التقاط صور هذه اللحظات عفوياً –تُعبّر عن شعوري بهذه اللحظات، أكثر من اللحظات نفسها. يجب أن أوضح أيضاً أنه عندما بدأ "يوميات: المنفى"، لم يكن المشروع على صورته الحالية، بدأ بمحاولتي توثيق حياة جدتي التي كانت تعاني من فقدان الذاكرة. لم أكن أدرك أنني في الواقع أقوم بتوثيق نفسي. كان ذلك منطقياً لأن جدتي كانت جزءاً كبيراً من حياتي. في ذلك الوقت، كنت أقضي الكثير من الوقت معها. كنت أنا من يتولى رعايتها. لذلك أصبحت تلقائياً الشخصية الرئيسية للمشروع، لأنها كانت الشخصية الرئيسية في حياتي الشخصية.
    بالنسبة للغرباء، يبدو الأمر مثل تأثير الدومينو. تبدأ عملية التصوير دائماً بالأشخاص الذين أعرفهم: الأصدقاء والعائلة، ثم تتسع الدائرة لتشمل أصدقاءهم وعائلاتهم، ثم تمتد تدريجياً لتشمل الغرباء. عندما يقبل الناس أن يتم تصويرهم، أشعر أنهم منفتحون. لا أعرف كيف أو لماذا، لكنه أمر مدهش . لوهلة، يبدو الشخص الذي أمامك غريباً تماماً، وبعد عشرين دقيقة، يصبح شخصاً آخر على استعداد لأن يمنحك جزءاً حميماً جداً من حياته. يشبه الأمر استقلال حافلة لنبدأ في التحدث إلى شخص غريب. وبعد عشرين ثانية فقط، تجد نفسك تتحدث عن حياتك الشخصية مع شخص لا تعرفه ولن تقابله مرة أخرى.
    يمتلك التصوير الفوتوغرافي هذه القوة، لكنني أعتقد أنها قوة إنسانية، وليست مجرد فعل التصوير الفوتوغرافي. لنكُن صادقين. إنها عملية إنسانية للغاية. لا توجد حِيّل فنية فيما أفعله. إنها ببساطة عمل إنساني خالص.

رنا قبيسي: الاغتراب موضوع مُهيمن على أعمالك. في النص المرفق مع الصور التي تشكّل مشروع "يوميات: المنفى"، كتبت: "أرفض أن أتلاشى وسط حشد من الأحلام المحطمة. لن أتماهى مع درجات اللون الرمادي". ما هي العلاقة بين معالجة مشروعي "يوميات: المنفى" و"جاف" لموضوع الاغتراب؟ هل يمكن أن نفهمها على أنها تطور للموضوع؟

    ع. ش: في الواقع، المشروعان مرتبطان ببعضهما . كان "يوميات: المنفى" الخطوة الأولى نحو "جاف". "يوميات: المنفى" شخصي للغاية، ويتمحور حولي وحول محيطي. لقد كان خطوة نحو الخروج من منطقتي الآمنة، والتوجّه بتلك الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي لأشخاص آخرين. في نهاية "يوميات: المنفى"، فهمت شيئاً كان مهماً جداً بالنسبة لي، وهو أن مشاعر الاغتراب الشديدة التي كنت أستكشفها في هذا المشروع كان لها صدى أوسع لدى الناس وفي العالم من حولي. هذا ما دفعني للخروج من منطقتي الآمنة والذهاب لمقابلة كل هؤلاء الأشخاص الذين يشبهونني بدرجات مختلفة. بعضهم، كما تعلمين، مُنغمس تماماً في فكرة الاغتراب هذه، وبعضهم أقل انغماساً، أقل بكثير، لكن يمكنني القول أن كل هؤلاء الأشخاص بذلوا جهداً من أجل التفكير في انتمائهم وجذورهم ومواقعهم في المجتمع أو على الأرض التي يعيشون عليها.
    وبالمثل، عندما بدأت مشروع "جاف"، لم يكن كما هو الآن. بدأت بأسئلة أساسية للغاية. كنتُ ذلك الشخص الساذج، كما تعلمين، الذي يدخل الغابة. كنت أقول لنفسي: هيا تقدم حتى لو لم تكن مُستعداً لذلك. لكن هذا المشروع جعلني في الواقع الشخص الذي أنا عليه اليوم. لقد ساعدني في العثور على الأرض التي أقف عليها الآن. إنه مُتعدد الطبقات. أعتقد أن أي مشروع فني يجب أن يكون مُتعدد الطبقات بمعنى ما. على الأقل، من وجهة نظري.

ن. ح: من المثير للغاية معرفة أنك لم تضع تصوراً فكرياً مُسبقاً للمشروع، وأنك لم تتوقع أن يتطوّر بهذا الشكل. متى أدركت أنك تعمل على مشروع أكبر من تصورك؟ لأن ما قلته منحني انطباعاً بأنه لم يكن لديك نقطة انطلاق تحريرية واضحة في البداية. متى تناغمت كل الأجزاء سوياً؟ هل يمكنك أن تقول شيئاً عن عملية انتهاء المشروع على هذا النحو؟

    ع. ش: في الواقع، بدأت بأسئلة لطالما وجّهتها لنفسي: ماذا يعني لك أن تكون جزائرياً؟ من هو الجزائري؟ هل تشعر بالانتماء إلى المكان الذي نحن فيه الآن؟ كان لديّ معايير عامة لنوع الأشخاص الذين أرغب في مقابلتهم وماذا أفعل معهم: ألتقط صوراً بالأبيض والأسود؛ جزيرة وبورتريه وألوان. أردت أن يكونوا في وضعيات محددة أثناء التصوير. أدركت أنني كنت أعمل على مشروع مُتماسك، تتبدى ملامحه شيئاً فشيئاً. لم يأت دفعة واحدة. قابلت هؤلاء الأشخاص على مدار عدة سنوات. كنا نتحدث، وخلال هذه الحوارات، كنت أتعلم شيئاً ما، عنهم أو عن نفسي أو عن المكان الذي أعيش فيه. وأعتقد أن هذه هي قوة الإنصات الواعي، قوة الحوار. كنت أقوم بتدوين الملاحظات وتسجيل مقابلاتي معهم. ثم أُتيحت لي الفرصة للاستماع إليها مرة أخرى، ولقراءة الملاحظات مرة أخرى. كان الأمر يبدو مثل طبقة من البحث. إذا استبعدنا جانب التصوير الفوتوغرافي، هذا هو ما يعنيه أن تكون باحثاً. يتراكم لديك الكثير من الأسئلة بمرور الوقت. تحاول العثور على الاختلافات، تحاول القراءة، والاستماع إلى مقاطع بودكاست أو مشاهدة مقاطع فيديو. ثم جاءت تلك اللحظة الفارقة؛ لحظة قراءة كتاب كريمة لازالي "الصدمة الاستعمارية". في ذلك الوقت، كان مُتاحاً باللغة الفرنسية فقط. أنا قارئ بطيء باللغة الفرنسية. لذلك قرأت أول صفحتين. وبعد ذلك صدمتني اللحظة. لقد فهمت أن كل شيء تعلمته، وكل ما كنت أشعر به، له تعريف علمي. في الواقع، هذا ما جعلني أقول: آه، حسناً. لأنني شعرت أن هناك شيئاً ما يدور في ذهني كلما أنهيت محادثة. ثم قرأت هاتين الصفحتين، وأدركت أن شخصاً ما عزل هذا الشعور ووضع له تعريفاً. هذا هو المُستقر الذي اتخذ فيه كل شيء شكله النهائي. بدأ بأسئلة بسيطة للغاية عن الانتماء وانتهى بصدمة استعمارية. هذا طيف واسع، لكنه منطقي، لأنني نضجتُ خلال تلك السنوات الخمس من العمل. لقد تعلمت. أنا الآن أقل سذاجة. وأعتقد أن أحد الأشياء التي ساعدتني في بناء المشروع على ما هو عليه الآن هو أنني لم أكن مُتزمتاً ومُصرّاً على ما كنت أريد في ذلك الوقت. لم أكن مصمماً على امتلاك الأشياء بطريقة أو اتجاه معين. شعرت بالحاجة إلى التحليق في فضاء رحب، لأنني لم أشعر في حياتي الفعلية بأنني أمتلك مساحة مفتوحة لكي أكون حراً. واعتقدت أنه يمكنني خلق تلك المساحة في عملي. أفكر دائماً، ما هو الهدف من الممارسة الفنية إذا كانت قواعد الحياة اليومية تفرض عليها قيوداً. نحن بحاجة إلى إيجاد نوع من الحرية في ممارستنا. وإلا فإننا نكرر نفس أخطاء واقعنا.

ن. ح: كيف توصلت إلى فكرة النشر الذاتي بدلاً من الذهاب إلى دار نشر أو مؤسسة معينة؟ ما هي التحديات التي واجهتك؟ إذا كنت ستنصح شخصاً سيخوض تجربة النشر الذاتي، فماذا ستقول له، وما الذي كنت تتمنى أن يخبرك أحدهم به في البداية؟

    ع. ش: في الواقع، شعرت بحاجة للتعرف على عملية صناعة الكتاب نفسها. اعتقدت أنه من واجبي أن أفهم العملية، لأنني أعتقد أن هناك معرفة يمكننا مشاركتها. إذا كنت أعتمد على ناشر، فسيحتفظ بالمعرفة لنفسه. أعرف أن هذا الناشر صديقي، ويمكنني أن أطرح عليه أسئلة لاحقاً وما إلى ذلك، لكن هذا لا يعني أنني حصلت على هذه المعرفة بنفسي أو أنني أعرف كيفية عملها. لذا، ما كنت أتمنى أن يخبرني به أحدهم قبل أن أبدأ هو أن الأمر صعب. إنه صعب حقاً. هناك الكثير من الأشياء التي يجب أخذها في الاعتبار، لكن في نفس الوقت تعلمت الكثير. اكتسبت الكثير. كنت محظوظاً لوجود أشخاص من حولي ساعدوني، بدءاً من "روي سعادة"، الذي كان مصمماً رائعاً للكتاب، قدّم الكثير من الأفكار وجعل الكتاب على ما هو عليه الآن. أنا ممتن له بقدر امتناني لكثير من الأشخاص الآخرين الذين ساعدوني بآرائهم، ومشاعرهم، أو مجرد الدعم الذي ساعدني كثيراً. ولكن هناك أيضاً تأليف الكتاب نفسه، وهو عملية فنية رائعة أحبها. ثم هناك الجزء الذي تصبح فيه تاجراً. تضطر للسفر كثيراً. تسافر مع الكتب. تنمو لك عضلات جديدة في كتفيك لأنك تحمل الكتب في حقيبة ظهرك. أدركتُ أن الأمر بسيط جداً في الواقع. بمجرد حصولك على الكتاب، يصبح الأمر واضحاً: تذهب الى المكتبات وتعرض كتابك فقط. وحينها يقبلونه أو يرفضونه، لكنهم يأخذون الكتاب في معظم الأحيان. تعلمت أيضاً أهمية الذهاب إلى معارض الكتب. حاولت أن أذهب إلى معارض الكتب بقدر ما أستطيع. حاولت تطوير علاقات مع المكتبات والناشرين، لا لكي أنشر معهم، ولكن كي أتعرف عليهم، وأعرف ماذا يفعلون، والعملية التي يقومون بها. أعتقد أن لدينا مسؤولية، كجيل، لمشاركة هذه المعرفة ونقلها للآخرين.
    لا يحدث الكثير في منطقتنا فيما يتعلق بمجال نشر الكتب. لدينا كتب يتم نشرها، لكننا نعتمد دائماً على دول الشمال. لذا فإن المعرفة دائماً هي الشمال. نحن بحاجة إلى إعطاء أهمية للجنوب قليلاً. ما وجدته مثيراً للاهتمام أيضاً هو أن عملية التوزيع كانت إنسانية. اعتقدت أنها ستكون تجارية بحتة. أن نتحدث عن المال، وكيف نبيع الكتاب، لكنها كانت إنسانية للغاية. شعرت أن هناك علاقات إنسانية تُبنى. بعد معرضين لكتاب التصوير الفوتوغرافي، بدأت في التعرّف على الوجوه وبدأت الوجوه في التعرّف عليّ، وفجأة لم أعد ذلك الغريب مع كتابه الأسود الذي يحاول عرضه على الجميع. أحببت الأمر. كان اكتشافاً بالنسبة لي، رغم صعوبته.

ر. ق: إلى أي مدى ساهم البرنامج العربي للتصوير الوثائقي ومجتمعه في تعزيز مشروع "جاف"، وتكوين العلاقات؟

    ع. ش: يتجاوز برنامج التصوير الوثائقي العربي عملية التوجيه نفسها والمعرفة التي تكتسبها. هناك العائلة والشبكات المضمنة في البرنامج، والتي كانت شيئاً مهماً بالنسبة لي.
    اكتسبت العديد من الصداقات، من خلال البرنامج، مع محمد كيليطو، وشيماء التميمي، وتسنيم السلطان. من كافة أرجاء المنطقة، وليس فقط بلدي الأم أو البلد المجاور. تُدرك أن لديك عائلة وأصدقاء يمكنك الاعتماد عليهم. وهذا ما حدث، على سبيل المثال، مع روي، وهو أحد خريجي البرنامج أيضاً. هذا العام، أطلقنا برنامج مفترق طرق، وهو برنامج للتدريب على التصوير الفوتوغرافي تدعمه "آفاق" أيضاً. شارك فيه روي كموجّه،وعرضت سارة سلام، الحاصلة أيضاً على منحة برنامج التصوير الوثائقي العربي، كتابها "أخيراً، أعاود النظر إليك". أنا أستفيد من هذه الشبكة، والتي تسمح كذلك للآخرين، الذين ليسوا جزءاً من عالم برنامج التصوير الوثائقي العربي، بالاستفادة. وجدت أنه من المهم والمذهل أنني أتيتُ إلى بيروت في 2018 ولم أكن أعرف أي شخص، والآن، في عام 2023، سمحت لي هذه الصداقات ببناء روابط مع المصورين الشباب في بلدي وفي جميع أنحاء المنطقة. كل ذلك بسبب برنامج التصوير الوثائقي العربي.
    بالنسبة لبرنامج "مفترق طرق"، وبالنسبة لكتابي، كان هذا هو مكمن المساهمة، لأننا تعلمنا ما ينطوي عليه دعم "آفاق". لديك مؤسسة أو برنامج يساعدك، ليس فقط على التطوّر كمصور فوتوغرافي لديه مشروع، ولكن أيضاً يساعدك على تطوير ممارستك الخاصة وتفكيرك، والأهم من ذلك مساعدتك في بناء علاقات داخل المنطقة. قبل أن أبدأ العمل مع مصورين آخرين، كان المصورون الجزائريون يعملون في الجزائر، والمصورون المصريون يعملون في مصر. وكنا نهتم أكثر بشأن دول الشمال، وما يحدث في دول الشمال، ولا نعرف الكثير عما يدور حولنا. أجريت مناقشة مع مصور هندي في جنيف العام الماضي. تحدثنا عن مدى الاعتماد على أوروبا للالتقاء كممارسين من بلدان الجنوب. نحن لا نلتقي أبداً في الجنوب. ولكن إذا نظرنا إلى تجربة برنامج التصوير الوثائقي العربي في هذا الصدد، فإنها توفر لنا الفرصة للالتقاء بالفعل في المنطقة، وهذا أمر مهم للغاية. إنه مجرد بداية، لا أعرف ما الذي سيحدث في غضون عشر سنوات أو عشرين عاماً. هذا شيء أتطلع إلى رؤيته.